يُمكننا القول إن الترجمة إلى العربية قد بدأت فعليًّا مع بداية عصر بني أمية على يد خالد بن يزيد بن معاوية، حين قام وأمر بالترجمة من اليونانية إلى العربية، أيضًا عندما أجاز الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز وأمر بترجمة الكُتب الطبية نظرًا لحاجة الناس الشديدة إلى تلك العلوم واستخدامها في حياتهم اليومية مثل علوم الطب، ومع ذلك لم تكن تلك حركات ترجمة تعتبر كبيرة، بل كانت في نطاق محدود، ولم تبلغ شأنًا بعيدًا من التقدم والازدهار إلى أن حكم بنو العباس، وبخاصة في عهد الرشيد والمأمون، والتي فيها نشطت وتألَّقت في سماء الأمة الإسلامية نهضة علمية عربية عارمة كانت الترجمة تمثل العمود الفقري لها.
ومع بداية منتصف القرن الثامن الميلادي وازدهرت واتَّسعت حركة الترجمة في عهد الخليفة المأمون (786 – 833م) في القرن الثاني الهجري والتاسع الميلادي عندما بدأ يدرك المسلمون مدى أهمية التطور العلمى وتأثيره في انتشار وتوسيع رقعة دولتهم، وبدأوا ينهلون من موارد العلم كؤوسًا ويترجمون كتب الإغريق والهند والفرس وينقلون إلى اللغة العربية مختلف الذخائر العلمية، واستمرت هذه الحركة في ازدهار ملحوظ حتي نهاية القرن الحادي عشر.
وكانت نتائجها العظيمة هي ما ترجم إلى اللغة العربية من تراث الأمم ذات الحضارات القديمة، والتي تبعتها نهضة علمية ضخمة وخصبة واسعة تميز الإنتاج فيها بالجدة والأصالة وبإضافات بارزة، وأضاف العلماء العرب إلى هذه التراجم من مبتكراتهم، وكان هذا نتيجة تفاعل التراث الأجنبي الدخيل مع التراث العربي الأصيل، وقد ذهب بعض المستشرقين الغربين مثل ويل ديورانت إلى أن الإسلام قد احتل الصدارة والقيادة الفكرية والعلمية في العالم طوال حكم العباسيين.
ومن هذا المنطلق اعتبر العصر العباسي العصر الإسلامي الذهبي، الذى كان فيه المترجمون في الغالب يجيدون اللغة التي يترجمون عنها مع إتقانهم وإجادتهم للغة التي ينقلون إليها، واتَّصفوا أنه كان أكثرهم يلتزمون الدقة ويتوخون الأمانة فيما يترجمون، ومن أبرز المترجمين في ذلك العهد، بل أبرزهم جميعًا حنين بن إسحاق، الذي كان يعد طفرة لأنه كان يجيد ثلاث لغات غير العربية هي الفارسية واليونانية والسريانية، وكان بشهادة أغلب المؤرخين يتسم بأنه جيد في أسلوبه وواضح المعنى، واتَّصف بأنه كان يستعمل المصطلحات العلمية كما هي بألفاظها ومفرداتها الأجنبية، أي فقط كان يقوم بتعريبها مع شرحٍ لمعناها، وكثيرًا ما نهض حنين بإصلاح أو إعادة ترجمات ابن البطريق عن اليونانية، وكان لا يجيدها رغم تمكنه من اللاتينية، وقام بالعمل نفسه مع ترجمات اصطفان بن باسيل.
ومما أثر وساهم في أسلوب حنين أيضًا أنه انطلق بأمر الخليفة المأمون إلى القسطنطينية من أجل البحث عن الكتب والمراجع، وبوجه خاص عن مؤلفات جالينوس، والتي كان يقوم بترجمتها من أجل الاستفادة من علومها، ولا أظن أن أعمال جالينوس أُحْييت على يديه وعلى أيدي من عاونوه من مترجمين وتلاميذ، وكما اعتبرت أنه في القرون الوسطى المسيحية كانت لم تعرف شيئًا عن الطب اليوناني، إنما عرفته عن طريق الطب العربي، وإذا رجعنا إلى كتاب الفهرست لابن النديم لوجدنا طائفة قيمة من تلك الترجمات التي كانت دعامة الحركة الفكرية والعلمية في القرن الثالث الهجري أو العاشر الميلادي، وفي جو هذه الترجمة تخرج أكبر طبيب عربي هو أبو بكر الرازي، وجملة القول كان حنين بن إسحاق ومدرسته خير من يمثل الثقافة اليونانية ومن قدَّمها إلى قراء العربية.
لكن لن ندَّعي أيضًا أن الترجمة في هذه الفترة رغم تمكنها وقوتها كانت صالحة بنسبة 100%، فلقد كانت تشوبها بعض المعوقات، التي أثرت على مسيرة حركة الترجمة، لكنها لم تكن بالقوة التي تجعل من الترجمة كحركة ثقافية تتوقف، ويجب أن نشير إلى أن الترجمة في هذه الفترة الخصبة من الحضارة العربية كانت تسير بشكل مطرد في اتجاه العلم أكثر منها في أي اتجاه آخر، وبالتالي أثر ذلك على أن ينهل العرب من ينابيع الفنون القديمة مثل الدراما مثلاً، حيث كانت محاولات ترجمة النصوص إلى العربية في هذا المجال قليلة جدًّا، بل تكاد تكون منعدمة، حيث لا نجد ذكرًا للفنون الدرامية في مسيرة الترجمة إلا بعض الإشارات لكتاب فن الشعر لأفلاطون، والذي ربما ترجمه يونس بن متى، لكن الترجمة مفقودة أيضًا، وكانت هناك معوقات كثيرة تواجه الترجمة الأدبية منها عدم وجود مقابل للاصطلاحات الفنية في اللغة العربية، وكانت هذه من أهم المعوقات التي واجهت ترجمة الأعمال الأدبية وهوميروس بالتحديد مع أنه كان مجالاً خصبًا للترجمة، إلا أنه لم يلق نجاحًا في هذه الفترة، ولعل أهم المعوقات التي واجهت ترجمة أعماله كانت معوقات من ناحية السنتاكس، أي علم النحو والصرف، لأن اللغات اليونانية واللاتينية تختلف من ناحية النحو والصرف بشكل كبير عن اللغة العربية، وتلك المعضلات اللغوية التي أحبطت الجانب الأدبي في حركة النقل والترجمة العربية في عصور مجدها.