لا يُمكن اعتبار ممارسة الترجمة إحدى النظريات في ترجمة النصوص، وذلك لأن الترجمة تتطلَّب حرفيةً أكثر، ومعرفةً جيدةً باللغتين (لغة المصدر، ولغة الهدف)، وهذا كل ما يُمكن الإتيان به من الواقع. كان يُمكن أن أقول، إنه ليس بالضرورة معرفة نظرية والتر بنيامين في الترجمة، أو نظرية أخرى لشخص آخر، ولأن معرفتها وعدم معرفتها ليسا في غاية الضرورة، فالترجمة تعتمد بشكل أساسي على الممارسة، وهذا لأن النظريات تُقصر الترجمة في شكل ومكانة محددة سلفًا إذن، وتجعل كل شيء رهينًا في العمق، أما النص الأصلي فإنه يتطلَّب أولاً وأخيرًا التركيز في المقام الأول على الدَّال، أو على هدف الرسالة، باعتبارها ما يتعين أساسًا نقله، ومثالٌ على ذلك الترجمة التي قام بها جويس لرواية كرواك "مكسيكو سيتي بلوز"، وهو نص اعتمد على ارتجالات الجاز.
وذلك يرجع إلى أن النص يتكون من كلمات، لكنه يحمل ثقافة أيضًا، ومن هذا المنطلق وجب أن تتعايش الترجمة اللسانية مع ما يُمكن أن يسمى بالترجمة الثقافية، إلا إذا لزم تعلُّق الأمر بترجمة ثقافية دقيقة، فهذا يُعرِّض المترجم الى مصطلحات لا تقبل الترجمة، ومثالٌ على ذلك أن المعنى الكامن خلف الكلمات الأمريكية ليس كما هو المعنى الكامن خلف الكلمات في الفرنسية، سواء ارتبط الأمر بمفردات خاصة بالثقافة الأمريكية، أو بمفردات في غاية البساطة. فكلمة "سينما" لا توحي البتة بالشيء نفسه عند الفرنسيين والأمريكيين. وكلمة "خبز" تحيل على شيء ثانوي في مائدة عشاء أمريكية، بينما تحيل على مكون أساس في مائدة فرنسية. ومصطلح wilderness (قفر) ليس له أي علاقة بترجمته الفرنسية، فهو يعبر عند الأمريكيين عن تجربة تأسيسية بينما يرتبط عند الفرنسيين بالمرحلة الاستعمارية لأفريقيا ومناطق أخرى. ولذلك عند قيامنا بترجمة ثقافية دقيقة فإننا سنجبر على حشو النص بالحواشي، ما يؤدِّي في بعض الأحيان إلى التوقُّف عن الترجمة لأننا سوف نكون أمام نص مليء بالحواشي.
ولعل أبرز هذه الأنواع من النصوص هو النص الشعرى بكونه أكثر الإبداعات صعوبة في الترجمة، وعلى هذا المنوال وُجدت أنواعٌ كثيرة من النصوص تصعب ترجمتها موازنة بنصوص أخرى، وذلك لأنه يجعلنا نصطدم بإشكالات مرتبطة بأمانة المعنى، وإشكالات أخرى تتعلَّق بكيفية استخدام اللغة وبمهاراتها التعبيرية، لذلك من الصعب ترجمة أعمال كومينغ مثلاً؛ لأن نصوصه اتَّسمت بقوة في عرض الشكل الطباعي. فهنا نحن أمام أنه من الممكن إيجاد شكل طباعي فرنسي مُشابه، حتى لا نفقد المعنى أو الدَّال، والأمر نفسه ينطبق على نصوص إيزرا باوند وآخرين كثيرين. وهنا قد يقع المترجم في مشكلة، وهو إما أن يفقد شيئًا في شكل الصفحة، وإما في معنى القصيدة، ويجب إذن مضاعفة التوافقات حتى نصل إلى ترجمة مقبولة، لذلك صنف الشعر يمثل النوع الأشد صعوبة في الترجمة.
وهذا ليس دليلاً على أن أي نص نثرى سهل الترجمة، فمثلاً الرواية البوليسية قد يكون كاتبها روائيًّا من الدرجة الثالثة لا تقل صعوبة عن تلك التي كتبها كاتب بارع؛ إذ يستهوينا تحسين بعض الجمل التي تكون مختلفة أحيانًا وإعادة التوازن لها، لذلك علينا دائمًا أن نتوقع الصعوبات التي ستواجهنا، غير أنه مع مرور الوقت والمراس سيكون بمقدورنا تشخيصها بشكل أفضل، لذلك لا نجد لنظرية الترجمة أي فائدة، لأن ما يهم هو التعلق بالنص.
لهذا وُجد كثير من النصوص لا يُمكن ترجمتها، وهذا لأن الأمر يعود بنا إلى فكرتنا عن الترجمة الثقافية. ومثالٌ ذلك حواشي المترجم الشهيرة، التي لا تُحتمل: فهي أمر بدهي لا طائل من إضافته إلى ترجمة النص، فالمترجم لا يُمكن أن يطبق إلا أنساقًا تعوضيًّا. فإذا كانت لعبة كلمات غير قابلة للترجمة، وتمكن المترجم فيما بعد عشرة أسطر من استعمال لعبة كلمات أخرى فإن الميزان يكون آنذاك قد قارب على الاعتدال، ليس ثمة لعبة الكلمات فقط، هناك أنظمة الإيقاعات والجناسات لا تقبل الترجمة. ويتطلب في ذلك أن هذا الاهتداء يكون على تكافؤ مع مستوى نظام الدال، سواء في الشعر أو في النثر، وهذا ما يتطلب من المترجم أن يكون مرهف الحس، لا مجرد عارف باللغة، فبما أنه من غير الممكن القيام بالترجمة بطريقة مباشرة، فإنه يتوجب عليه أن يكون على استعداد لابتعاد عن النص ومحاولة الاهتداء إلى صداه.
ومن هنا، يتبين لنا أنه يجب أن تتوافر في المترجم خصائص الكاتب، كما أنه في فرنسا يعامل معاملة الكاتب، فيحظى بموجب حقوق المؤلف بنسبة مئوية من عائدات المبيعات، لكنه لا يحل محل الكاتب. ويبقى وضعه غامضًا وملتبسًا. وإن هناك عددًا لا يستهان به من المترجمين يتحدثون عن كتبهم، والواقع أن مترجم الخواطر ليس بكاتب خواطر، ولا مترجم الرواية بروائي، ولا مترجم القصة بقاص، ولا مترجم الشعر بشاعر. غير أن هذه الحقيقة لا تمنع البعض من التمادي في الخلط بينهما، ولكني أعتقد أننا سنكون عرضةً لفساد شديد للذهن بالخلط بين المترجم والكاتب، وإن هذا لا يمنع تشابه عمل الاثنين من حيث نقل وصياغة المحتوى.