إن الإسلام ساهم بشكل واضح في التوعية بأهمية مواكبة الحضارة الإسلامية مع الحضارات والأعراق والملل المختلفة بكل رحابة صدر وسماحة وحب، ومن هذا المنطلق كان المواطنون العرب -مهما اختلفت مللهم وطوائفهم- يهيأ لهم الجو الذى يساعد على إبداعهم في خلق وإنشاء تلك الطفرة العلمية والفكرية العربية التي قادت الشرق ثم الغرب إلى عصر جديد من التقدم الفكري والمعنوي.
ومن هذا المنطلق الذي يتضح منه أن الإسلام كان حاضنًا لكل الثقافات والأعراق ويحاول بطريقة علمية اكتساب الصالح من تلك الثقافات وإضافتها إلى مجتمعه وللاستفادة منها، ولذلك حرص على الاهتمام والتركيز على قضية الترجمة، واعتبرها مدرسة مهمة وشهيرة هي التي تحملت جزءًا كبيرًا من عملية النقل الحضاري وفك شفرات المنتج الثقافي، وكان من نتائج ذلك الاهتمام إنشاء مدرسة السريان التي لم يتكرر لعبقريتها مثل في التاريخ، والسريان عرقيًّا وأثنولوجيًّا هم من العرب الشوام، أو السكان الأصليين لما يعرف بـ(سيريا)، أي سوريا، كما نسميها الآن، لقد كانوا في الأساس عربًا من الكنعانيين، ولهم في أنسالهم نسب يعود إلى سيدنا إبراهيم -عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات والتسليم- وبحكم وجود اليهود منذ قديم عهدهم وخروجهم من مصر في سوريا، وحيث يوجد أقدم كنيس أو معبد يهودي في سوريا، ويقال له الكنيس الأحمر، كان السكان الأصليون من السريان فيهم نسبة ليست بالقليلة تعتنق اليهودية، ثم بعد دخول المسيحية وانتشار المسيحية في الأقاليم التي تشكل منطقة الشام اعتنق معظمهم المسيحية، وكانوا بعد مرورهم بعدة موجات استعمارية أهمها الموجة اليونانية التي صاحبت دخول الإسكندر الشام ومصر، حيث حكمهم فيما بعد عدة أسر يونانية كان أهمها أسرة (أنتيوخوس) التي اشتق منها اسم (أنتيوخياس) أو أنطاكية التي كانت تطلق على معظم أجزاء سوريا، ثم بعد ذلك الرومان الذين سيطروا على سوريا حتى الفتح العربي، من هنا كان لمتعلمي هذه المنطقة سمات ثقافية في غاية التفرد والإبداع، حيث أتقن أعضاء طبقة المثقفين السريان عدة لغات هي السريانية، وهي لغة سامية قديمة تمثل إحدى مراحل اللغة العبرية القديمة، وهي أيضًا أحد أشكال تطور الآرامية، وأجادوا أيضًا اليونانية القديمة التي أخذوها عن الإغريق، وأجادوا اللاتينية، لكن كل الدراسات تؤكد أنهم كانوا يتكلمون بلسان عربي فصيح، رغم إجادتهم كل هذه اللغات، وكان السريان من نوعية المثقفين المتفتحين التي لا يشكل لهم اختلاف العقيدة عائقًا في الاتصال، حيث كان معظمهم من المسيحيين على المذهب النسطوري (نسبة إلى مبتدعه القس والفيلسوف نسطور)، وهو مذهب أقل تعقيدًا من مذهب الأرثوذوكس الذين تشكل لهم مشكلة التعدد احتقانًا كبيرًا من ناحية الطرح الفلسفي.
أما عندما دخل العرب سوريا فقد حرصوا على أن يبقوا أهلها أو السكان الأصليين في سلام وأمان، ومنحوهم حرية العبادة الكاملة، وكانت تلك هي بداية الثقة بينهم وبين العرب والإسلام بشكل خاص، واعتبرت تلك الخطوة الأولى التي ساهمت وجعلت السريان على وفاق معهم، وبدأوا يمدون جسور التعاون مع المسلمين، وإن السريان لم يتظاهروا بالجهل بالحضارة الإسلامية عندما دخل العرب بلادهم، بل كانوا يعرفونهم تمام المعرفة بحكم التعامل مع دول الجوار والتجارة والتزاور، والذي كان يحدث بينهم سابقًا ومن قبل نزول الإسلام، أيضًا، وقد وصل الأمر بينهم رغم اختلاف الأديان إلى صلات النسب، ومن هنا صارت قضية الاختلاط بينهم وبين العرب والمسلمين تندرج تحت عنوان دمج إقليمي وليس احتلالاً يتصور للبعض وبدليل على ذلك أن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين السريان قد تعدَّت كل الخطوط الحمراء فشملت الزواج والمصاهرة وعلاقات الحب والعشق، حيث كانت والدة يزيد بن معاوية الأموي سريانية مسيحية، وكان يُفضِّل في جواريه السريانيات المسيحيات، وهناك العديد من الأمثلة المختلفة غير معاوية كثيرة، فلقد تزوَّج الشاعر العربي عبد السلام بن رغبان الشهير بديك الجن بجارية مسيحية، ومات حزنًا عليها بعد أن قتلها تحت تأثير الشك والريبة.
وهذا ما يؤكد أن علاقتهم بالمسلمين لم تكن احتلالاً كما هو متعارف عليه، وأن الإسلام كان مرحبًا بعلماء غير المسلمين وثقافتهم والأديان المختلفة عنه طالما أنهم يحملون من العلم ما ينفع الأمة الإسلامية والبشر أجمع.
ونستنتج من ذلك أن السريان ما هم إلا أحد الأجناس العربية التي تدين بالمسيحية في ذلك الوقت، وليسوا جنسًا متخلفًا كما يروج ويعتقد البعض، وكان من أهم نتائج اتحادهم مع المسلمين إنتاج ضخم من الترجمات المختلفة وصدور الآلاف من المحتوى الابداعي الإسلامي، الذي نتج عن اهتمام الخلفاء الأمويين، ثم العباسيين، بعلماء السريان، ومنهم على سبيل المثال حنين بن إسحاق الذي يعتبر مثالاً مكتملاً للعالم الجليل والمترجم المبدع، والذي أجاد الترجمة إلى اللغة العربية بكثير من أمهات الكتب الإغريقية في العلم والفلسفة مثل كتاب العالم السكندري الأغريقي بطليموس في الفلك والمسمى اصطلاحًا عند العرب (المجسطي) والتي هي تحريف للكلمة اليونانية (ماجنوس)، أي الكبير، أو العظيم، وهو مجموعة أبحاث فلكية لبطليموس نقل بعضها عن العالم السكندري (كونون) الذي كان الفلكي الخاص بملك الإغريق السكندري (بطليموس الثالث يوريجيتس) ولقد نقل حنين العديد من أمهات الكتب إلى العربية، حيث هيَّأ بذلك المناخ لظهور علماء الجيل الثاني وفلاسفته أمثال ابن رشد، وابن سينا، وغيرهما.