منذ وقتٍ طويلٍ يُحاول كثير من المفكرين والمُنظِّرين أن يتحاورا فيما بينهم من أجل الاتِّفاق على ثوابت كثيرة يستطيعون من خلالها تكوين نظرية ثابتة ومشتركة بخصوص مسألة عملية خلق وتكوين الحضارات، لأنها تحمل في طياتها عديدًا من القضايا المهمة والخطيرة، أهمها مسألة انتقال الأفكار والمثل المميزة للحضارات من إقليم إلى إقليم، ومن عصر إلى عصر، من هنا كان وجب على مفكري الشرق والغرب أن يتجنبوا فكرة التعصب، سواء الثقافي أو الديني أو العرقي، لبحث آليات هذه القضية النظرية الكبيرة التي قد تلقي بظلالها على عمليات تطبيقية متعددة تسير في إطار الاندماج الحضاري من خلال الترجمة.
الآليات اللازمة في نقل الحضارات
ولذلك وجب علينا أن نبحث وندقق بكل أمانة في هذه القضية، وما الآليات اللازمة في نقل تلك الحضارات رغم وجود لغة مختلفة مدونة بها، وتشكل العائق الأكبر في هذه القضية، لهذا كانت هناك أهمية قصوى لقضية الترجمة التي بها تُسرِّع وتُسهِّل عملية انتقال الأفكار الحضارية من دولة إلى دولة، ومن عصر إلى عصر آخر، ومن هنا بدأت تبرز لنا قضايا ومعضلات الترجمة كعلم منفصل بذاته في الوقت الحاضر بعد أن بدأت تأخذ وضعها في الأوساط الأكاديمية ومكانتها الطبيعية كعملية معرفية متخصصة بقضية نقل وتكوين الأفكار الحضارية التي قد نُطلق عليها تخفيفًا اصطلاح (المنتج الثقافي والفكري)، من هنا صارت الترجمة بتاريخها علمًا خاصًّا يعتبر من أهم العلوم وأكثرها تأثيرًا في المجتمع، وهذا ما أكده أستاذنا الكبير محمد عناني، الذي كان له دور رائد في قضية معضلات الترجمة وعملية إعادة الصياغة من لغة إلى لغة أخرى بحكم عمله أستاذًا متخصصًا في الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة.
بالتأكيد، هي قضية مهمة ومتشعبة ومرتبطة بحدود الدول ومدارك الثقافات، بل إنها قد تتسع لتشمل كل العمليات العقلية التي قد يستخدم فيها العقل في فك أنواع من الشفرات أو الرموز الخاصة بقضية ما، حتى إنه في بعض الأحيان تجد أن اللغة الواحدة قد تحتاج إلى عمليات أولية من الترجمة إذا حاولت أن تنقل مضمونًا فكريًّا من إطار إلى إطار، أي من مجال إلى آخر تبعًا لثقافة المتلقي، فمثلاً قد تحتاج لفك شفرة أي ترجمة من اللغة العلمية لنقلها إلى القارئ العادي، وبالتالي تحولها إلى لغة أدبية أو لغة صحفية مع الإبقاء على بعض المدلولات العلمية مع شرحها. إذن، الترجمة لا تقتصر على عملية النقل من لغة إلى لغة، بل إنها أيضًا تشمل النقل والتحويل من إطار إلى إطار.
تأثير الترجمة على الحضارة الإسلامية
إن أكثر ما يشغلنا في هذه القضية هو أن نستعرض أهمية وتأثير الترجمة على الحضارة الإسلامية والكشف عن دورها في نشأة وتكوين الحضارة الإسلامية العريقة، وكيف قامت هذه الحضارة العريقة بدور المترجم لباقي الحضارات، والمنقح، والمضيف الإبداعي للفكر الأوروبي القديم، وأحيته بعد أن كان علمًا ميتًا في بطون المخطوطات في المكتبات العتيقة، التي كادت تُعامل كطلاسم سحرية بالنسبة لأوروبا في ذروة عصور تخلفها، أي بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، وبداية عصور الظلام التي قد نطلق عليها اصطلاحًا (العصور الوسطى)، ولكن قبل أن نطرح قضية الترجمة بشكل محايد وصريح في هذه الفترة دعنا نستشهد بكلام أحد عظماء الأدب العالمي، وهو أديب أوروبي، حيث يتكلم الأديب الألماني فولفجانج فون جوته عن العرب والترجمة في إحدى رسائله للأديب الألماني شيلر (لم أكن أتخيل أن تتفتح عيني منذ الطفولة ولا أجد تلك المحاورات العظيمة لأفلاطون، وتلك الشروح المستفيضة لأرسطو، لكنني وقبل أن تظن أني أتحدث عن مترجمينا الكبار الذين ترجموا هذه الذخائر من اليونانية واللاتينية يجب أن تعرف أني أقصد عباقرة منسيين من العرب هم الذين قدموا لمترجمينا وعلمائنا الشروح والتفاسير التي أعانتهم على بعث الحياة في أرسطو وأفلاطون من جديد، حيث لا أستطيع أن أتخيل أرسطو المترجم للألمانية دون أن يقفز في ذهني عالم كابن رشد أو حتى مترجم حصيف مثل حنين بن إسحاق)، وذلك يؤكد لنا الحاجة الضرورية للبحث في أسرار هذه الحضارة الغزيرة، وهذا هو المقصد من الكلام شيلر الذى قاله منذ أكثر من ثلاثمائة عام، إضافة إلى ما قاله أعظم أدباء العالم بعد شكسبير، بأن الحضارة العربية بحاجة لإعادة اكتشاف مثلما فعلت الحضارة العربية نفسها من قبل، حيث أعادت اكتشاف الحضارة الأوروبية بعد أن علاها تراب الزمن، وكادت تضيع في طيات التخلف الذي أصابها في العصور الوسطى القديمة.
ولكن وجب علينا التأكد هنا أن مسيرة حضارتنا العربية لم تعتمد وتقام على علمائها المسلمين فقط كما اتهمها البعض، وأنها كانت تنكر أي جهود للعلماء الآخرين من الديانات المختلفة، ولكن الأمانة العلمية والموضوعية التي تفرض علينا البحث العلمي تقتضي أن نفتخر بكل من العلماء المسيحيين العرب، بل واليهود أيضًا، الذين كان لهم دور كبير وفعَّال، وليس بالقليل، في مسيرة حضارتنا العربية التي من المستحيل أن تُنسى أو تسقط من ذاكرتنا، ومن حسابات التاريخ مدرسة السريان في الترجمة، والتي كان على رأسها حنين بن إسحاق، وابنه أسحاق أيضًا، وهذا على سبيل المثال لا الحصر، كذلك يهود إشبيلية مثل يوحنا الإشبيلي، ويهود الخزر، الذين نقلوا حضارتنا العربية إلى أوروبا فيما بعد.