الترجمة هي حلقة الوصل بين الدول من أجل التواصل والتبادل الثقافي بين شعوب هذه الدول، ومن دونها لا يتم تواصل ثقافي ذو شأن، فالبديل الوحيد للترجمة هو اكتساب اللغات الأجنبية الرئيسية في العالم، ولهذا فهي نشاط إنساني لا يمكن الاستغناء عنه او استبداله، كما أن هذا العالم يمتاز بتعدد اللغات والثقافات المتعددة، وكل لغة من اللغات الكثيرة الموجودة في العالم تحتوي على ثروات أدبية وفكرية وعلمية، لذلك للمتعلمين باللغات الأخرى مصلحة ومنفعة كبرى لهم ولبلدهم في أن يطلعوا على هذه الثقافات ويستفيدوا منها.
فضل الترجمة على ثقافات الدول
مما لا شك فيه أن كل تخلُّف أو تقصير أو تقاعس في مجال الترجمة يعني بالتأكيد تأخرًا أو تقاعسًا على مستوى التواصل الثقافي، يؤدي إلى حرمان المجتمع المتقاعس مــن فرص الاطلاع والتعلُّم من الثقافات الأخرى والاستفادة منها في إغناء ثقافته وتطويرها واكتساب كثير من المفاهيم والخبرات التي تساهم في تطويره، وتكون النتيجة الحتمية لذلك تأخر الثقافة التي يتقاعس أهلها في مضمار الترجمة وتخلفهم عن ركب الثقافة العالمي، وحتى وإن كانت الشعوب قديمًا غير مهتمة بمجال الترجمة، ومع ذلك لم يؤثر هذا كثيرًا، ولكنه أضرها نوعًا ما في طريق نموها أو تطورها، ولكن الآن أصبحت الترجمة أساسًا لكل حركة تنموية وتنويرية في أي دولة، وإن العزلة أصبحت أكبر المخاطر التي قد تصيب دولة ما في عصرنا الحالي.
ومن هنا صارت الترجمة احتياجًا أكثر منها نشاطًا يمارسه الفرد، مثلها مثل احتياج التعلُّم والزراعة، وما إلى ذلك، وبفضل الترجمة صارت الدول والشعوب يتشاركون في المتعة والفكر والإشراق والتبادل المعرفي والأدبي التي يحتويها كتاب بلغة لا يصلها الآخرون، فلنتصور العالم الآن ما إن لم تتوفر كتب كيركغارد إلا باللغة الدنماركية، ولو اقتصرت كتب أبسن على من يحسن اللغة النرويجية، ولو بقي ماركس وفرويد حبيسي اللغة الألمانية. والشيء نفسه يمكن أن يقال حول مؤلفات شكسبير، وتولستوي وغابرييل ماركيز وسرفانتس، ومئات غيرهم من المؤلفين كتابًا وشعراء ومسرحيين ومفكرين وفلاسفة وعلماء اقتصاد وسياسة وقانون وأنثروبولوجيا ونقادًا وعلماء اتصالات وفيزياء وكيمياء.. إلخ.
المترجم والكاتب ووجه التشابه والاختلاف بينهما:
لم تقتصر الترجمة على المترجمين فقط، لكن لجأ إليها الكتاب من أجل ترجمة أدبهم وآرائهم، وإيضاحها للشعوب الأخرى كما في ترجمة بوب لهوميروس، وترجمة بودلير لبو، وترجمة بروست لأعمال راسكين.. ومن هنا تم استغلال الترجمة في التعبير غير المباشر عن مشاعر وآراء ليس بإمكان المترجم أن يفصح عنها جهارًا باسمه في ظرف معين بسبب الرقابة على النشر، كما حدث سابقًا في ترجمة باسترناك لمسرحيات شكسبير، ومن خلال الترجمة يمكن للكاتب أن يوصل للناس ما هو موجود فعلاً من دون أن يلاحظ عليهم ذلك، ومثال ذلك الترجمات التي قام بها داريدن عن اللاتينية وترجمات ريلكه المتنوعة عن الفرنسية والإيطالية والإسبانية والإنجليزية.
وذلك لأن مهنة المترجم ليست فقط التحويل من لغة إلى لغة أخرى وترجمة كلمات فقط، بل تتطلب أن يملك حسًّا أدبيًّا وموهبة في الكتابة، مع فهم النص جيدًا وتفسير محتواه وتحويله إلى نص جديد ملائم ومناسب للغة الجديدة التي ترجم لها، وعلى النص الجديد أن يكون مقابلاً للنص الأصلي وليس نسخة طبق الأصل منه.
إن المراحل التي تمر بها عملية الترجمة هي نفس ذات المراحل التي يمر بها العمل الأدبي الأصلي، وللتوضيح أكثر فإن النص الأدبي الذى يترجم هو نص أدبي جديد، ولكن بنفس المحتوى والهدف المنشود من كتابته، وكلاً من المترجم والأديب يتطلب منهما الإبداع في النص مع مراعاة أن يكونا على منوال واحد لنفس النص، ولكن الاختلاف يكون في طريقة السرد والتعبير عن نفس المحتوى، ولكن بروح وأسلوب اللغة التي يترجم لها، مع احتمالية حدوث اختلاف بينهما، وذلك بسبب أن المترجم قد يتعثر في إيجاد كلمات مطابقة تمامًا للتي وردت في النص وفي هذه الحالة يأتي بكلمات مقاربة لها في المعنى، والاختلاف هذا يكمن في كون المترجم لا يتمتع بحرية اختيار العناصر كما هي الحال بالنسبة للكاتب الأصلي، وكذلك فإنه ملزم باحترام العناصر التي اختارها الكاتب الأصلي، والأكثر مـن ذلك، لا يسمح له بترك بصماته الذاتية على العمل الذي يقوم بترجمته، فمهمة المترجم الرئيسية هي أن يكون ناطقًا أمينًا بلسان الكاتب الأصلي.
الترجمة الجيدة هي نوع من تقمص المترجم لشخصية وروح الكاتب، ولكن بلغة أخرى ومحاولة تجسد للكلمات من لغة إلى أخرى، ولهذا على المترجم أن يفترض أن يطلع على معلومات عن الكاتب بشكل كبير حتى يتعرف على أسلوبه وثقافته وطريقة تفكيره حتى يكون أقرب إلى شخصيته حينما يترجم نصه الأدبي، كما أن دور المترجم مشابه لدور الناقد، فكلاهما مطالب بإماطة اللثام عما نسي من أعمال أدبية، وكلاهما مطالب ببناء جسور الاتصال بين الكاتب والقارئ، ولكن في كلتا الحالتين يجب أن يتحلى كل من المترجم والكاتب بالموهبة الأدبية.