أصبحت الترجمة الآن نشاطًا يوميًّا في جميع مظاهر حياتنا، بدءًا من الأوراق والبيانات المصاحبة للأدوية إلى تلك التي تبين كيفية استعمال الآلات المنزلية والأخبار الصحافية ومواقع التواصل الاجتماعي، والبرامج التلفزيونية والسينما والمسرح والروايات والنصوص القانونية والتقنية أو الدينية والترجمة الفورية في المؤتمرات وكتب الأطفال، وبالتأكيد أهمها المجالات العلمية المختلفة.. إلخ.
وهذا الوجود العظيم الذي فرض نفسه في حياتنا بالقوة، يدل على أن مجتمع فرض عليه أن يكون مفتوحًا على رياح العولمة الثقافية واللغوية والتبادلات الدولية في مختلف المجالات والميادين، وصارت الترجمة في العصر الحالي ضرورة ملحة للانفتاح والتقدم، والتي من خلالها يستطيع المجتمع أن يتطور في مختلف المجالات التقنية والعلمية والاجتماعية والثقافية، بل أصبحت العنصرَ الأساسي والأولى في تحقيق مجتمع معرفي، الذي يستطيع من خلاله، عبر ترجمة اللغات العديدة، أن يحقق التنمية الشاملة، من الثقافية والحضارية والعلمية، عن طريق معرفة ما ينتجه العالم الآخر حولنا من الدول المتقدمة والمتحضرة، لذلك لم تعد الترجمة مجردَ عملية تحويل لغوي، بل أصبحت عملية نقل حضارية وثقافية، التي من دونها لا يمكن الانفتاح على الآخر ولا معرفته، بقصد التعايش معه.
الترجمة أساس الحضارة
أغلب الدول التي تقدَّمت وواكبت دول العالم الأول قد بدأت في الأساس بحركة ترجمة على نطاق كبير، والتي بدورها نقلت حضارات وعلوم الدول الأخرى إلى تلك البلاد، وبدأت في تطبيقها والنهوض بها، ولهذا هناك علاقة طردية بينهما، فكلما زادت عوامل الانفتاح اللغوي والثقافي للدولة زاد انفتاحها العلمي والمعرفي، وكلما تعددت مصادره زاد النفع على البلاد بشكل واضح، كما أننا بالتأكيد نعطي الأولية للترجمة لنماذج الحضارات المتطورة جدًّا من أجل الاستفادة منها، ولذلك لا نقوم بترجمة نصوص ومعارف حضارات أخرى إلا من موقع القوة والعلم.
وبدأ يظهر هذا الوعي في الشعوب منذ القدم، وصارت الترجمة لا ترتبط فقط بأذواق وقدرات ورغبات فردية، وأصبح لها دور فعَّال وحاسم في التبادلات الثقافية والعلمية بين المجتمعات والحضارات بمختلف أزمانها، وبتنوع وأشكال وأنماط الوجود الاجتماعية التي تحدد طرق عيشها وتضيف إليها.
وفي العصر الحديث، وطبقًا لإحصائيات وضعتها منظمة «اليونسكو»، فإنه قد سجل أكثر من مائة وخمسين مليون صفحة مترجمة، على يد مائة وخمسة وسبعين مترجمًا محترفًا، وتوافق كل ذلك مع رقم أعمال بلغت ثلاثة مليارات، ومن أهم الأمثلة على ذلك فرنسا، فعند كل دخولٍ ثقافيٍّ وأدبي لها كانت يتبعها حركة ترجمة كبيرة في ترجمة عدد كبير من الأنواع الأدبية والعلمية قد بلغت أربعة عشر ألفًا، من ضمنها أربعة آلاف كتاب مترجمة، أي نحو ثلث الإنتاج الأدبي والثقافي لتلك السنة، وهذا يؤكد الأهمية الكبرى التي تصنعها الترجمة في حقل التداول الثقافي الفرنسي، والتي صارت مع الوقت من أهم العوامل التي ساهمت في انفتاح الثقافة الفرنسية على مختلف ثقافات العالم، خصوصًا مع وجود مترجمين محترفين وميزانيات خاصة بالترجمة، ولولا ذلك لما اطّلع كثير من القراء المغاربة على الأدب العالمي، لأن كم المترجَم منه عربيًّا محدود جدًّا ولا يرقى في جودته الترجمية إلى مستوى الترجمات الفرنسية.
الترجمة نشاط إنساني
كما عرفت الترجمة قديمًا كنشاط إنساني فلم تكن فعَّالة بشكل كافٍ، ولكن مع ذلك هي أصل أغلب العلوم المنقولة إلينا حديثًا، وذلك الإهمال راجع إلى أنه لم تتم معرفة أهميتها إلا حديثًا من خلال الدور التي قدمته قديمًا، ومنها اتضح دور المترجم، كعامل حاسم في التطور الأدبي، وكثيرًا ما يتم تجاهله ونسيانه، ويرجع هذا الإهمال لدور الترجمة بجهل الماضي وعدم معرفة مدى تأثير تلك الترجمات في تطور ثقافات الشعوب، بشكل غير مباشر، ويكفي التذكير هنا بأن أوروبا، منذ الإمبراطورية الرومانية، وحتى الاتحاد الأوروبي، ما كان لها أن تصير لها عولَمة، ثقافيًّا وحضاريًّا وتقنيًّا، وأن تفرض نفسها على الساحة الأممية دون الترجمة. إن شعوبًا وحضارات لا تولي الترجمة الأهمية الجديرة بها داخل منظومة السياسة الثقافية الخاصة بها تظل بمثابة شعوب ميّتة وثقافات جامدة خارج دائرة الإنتاج المعرفي الدولي المتسارع.
ومن عناصر الترجمة الأساسية
أن الترجمة ممارسة زادت وتطوَّرت وتم الإبداع فيها وإدراكها ووصفها وخلق وتكوين نظريات لهذه الممارسة وإنتاج علمها الذي يسمى «علم الترجمة»، من الضروري هنا، ومفترض أن النظرية الترجمة تبنى بناءً علميًّا لموضوعها وذات تفكير إشكاليا فيها وفي تاريخها، وأن تسجل بشكل منفصل عند سرد تاريخ الترجمة وتعتبر كعلم متخصص للترجمة، كما أن البعض الآخر من منظّري الترجمة يرون أنها تقتصر النظريات فقط على مجرد فصل أو فصلين من كتبهم لتاريخها، ولمن على أي حال فإن معنى الترجمة يظل دومًا مجرد ممارسة لغوية وثقافية من أجل النهوض بالشعوب من خلال التبادل المعرفي بينهم، بالإضافة إلى تعلُّم كل ما هو جديد في مختلف المجالات.