سوف نتحدَّث عن أهمية التَّرجمة ودورها في تاريخ الإنسان والمجتمع، وكذلك العلاقة الأصيلة بين اللغات المختلفة مع اللغة العربية، ومن هنا سوف نطرح أهمية ودور التَّرجمة والتدوين إلى اللغة العربية نظرًا لأنها تستحق التأمُّل والدراسة، وما قامت به عبر التاريخ من تأثير واضح في عالمنا العربي، وسنتناول دور التَّرجمة في بعض الحقب التاريخية للحضارة الإسلامية.
أهمية التَّرجمة للغة العربية
إن التَّرجمة هي الوسيلة الوحيدة لنقل العلوم بين الدول من علوم ومعارف وأفكار وآراء من مختلف أنواعها من (طب، وهندسة، وتاريخ، وفلسفة، وفن، وسياسة، وتجارة، وزراعة، وصناعة.. إلخ)، وأكبر شاهد على ذلك هو حركات التعريب التي حدثت على مر التاريخ الإسلامى، حيث نقل العلماء من مختلف اللغات مثل اليونانية، والسريانية، والهندية، والفارسية، إلى العالم العربى الكثير من المعلومات والعلوم التي لم تكن معروفة في الدول العربية، والتي بفضلها عاد على المجتمع العربى بكثير من التقدم والرقى في جميع الأنحاء.
تاريخ التَّرجمة في التاريخ الإسلامى
أولًا: التَّرجمة قبل الإسلام:
لم تكن واضحة المعالم أو الزمن وأختلف العلماء في تحديد الفترة الزمنية التي حدثت فيها، ذلك نظرًا لأنها اقتصر تداولها في إطار حركة التجارة بين العرب والعجم، أي من خلال رحالات التجارية والتعامل الشفهي فقط في حدود التعاملات التجارية، وكما أنها لم تدون وأيضًا لم تعد كترجمة ونقل، ولكن الدليل الوحيد على وجودها هو عدد من المفردات الفارسية، واليونانية، والرومانية، في أشعار العرب، ولعل أشهرهم في هذا الشأن الأعشى.
ثانيًا: التَّرجمة في صدر الإسلام:
هنا ازداد الاحتكاك بين العرب، وخاصة المسلمين، وبين الدول المجاورة ونشطت التَّرجمة مرة أخرى من أجل نشر الإسلام فيها، وكان النبى – صلى الله عليه وسلم – يرسل الرسائل إلى ملوك الدول مثل قيصر الروم، وكسرى ملك الفرس، ونجاشي الحبشة، ومقوقس ملك الإسكندرية من أجل الدعوة، وتابعه في ذلك الخلفاء الراشدون في مختلف الأمور، وكان من ضمنها الأمور الدعوية.
ثالثًا: التَّرجمة خلال العصر الأموي
هو العصر الذى من الممكن أن نقول إنه بدأ فيه بالفعل عملية النقل والتدوين إلى العربية من مختلف اللغات والحضارات الأخرى كالهندية، والإغريقية، والصينية، إلى العربية، واتَّصفت أن أغلبها كانت محاولات فردية مركزة على اهتمامات الخليفة حين ذاك، فمثلًا الأمير خالد بن يزيد بن معاوية اهتم باستقدام علماء من مدرسة الإسكندرية، حيت ترجموا الكثير من الكتب اليونانية إلى العربية، أما في عهد مروان فكانت أغلب التراجم للدواوين من مختلف الأمصار.
رابعًا: التَّرجمة خلال العصر العباسي
العصر العباسي اعتبر العصر الذهبى للترجمة نظرًا لازدهار حركة التَّرجمة فيه والتعريب، وكانت بشكل منظم وموجَّه من الدولة حين ذاك، ففي خلال حكم المأمون أنشأ بيت الحكمة، والذي كان يضم أكثر من 65 مترجمًا من مختلف اللغات كان شغلهم هو تعريب وإعادة الصياغة للغة العربية والكثير اللغات مثل اليونانية، والسريانية، والفارسية، والسنسكريتية، والآرامية، في هذه الحقبة تمت ترجمة العديد من مخطوطات علمية في الطب والكيمياء والفلك والرياضيات والفلسفة والمنطق، وكان أشهرها كتاب الجغرافيا لبطليموس، والأخلاق لأرسطو، وكتاب اضطرابات العين كما أن حركة التَّرجمة لم تقتصر على بيت الحكمة فقط، بل أيضًا وجدت أماكن خاصة غرضها الأول والأخير التَّرجمة لهذا هو العصر الذهبي.
خامسًا: التَّرجمة خلال العصر الأندلسي
في هذا العصر لم يكتفِ المترجمون العرب بالتَّرجمة فقط، بل بدأوا في الشرح والتعليق على النص، وأشهرهم هو الفيلسوف العربى ابن رشد الذى ترجمة أعمال أرسطو، وقام بشرحها والتعليق عليها من وجهة نظره الخاصة، كما كان يأتي أيضًا الكثير من المترجمين والمستشرقين الأجانب لترجمة الأعمال العربية إلى لغتهم، وقد برعوا في ذلك كثيرًا، وأضافوا للغة العربية بعض المُصطلحات من لغتهم، كما أنهم أخذوا من اللغة العربية إلى لغتهم الأصلية مُردافات عربية، ومن هنا اعتبر الأساس في التَّرجمة هو فهم ثقافة البلد أولًا، من ثمَّ النقل والتعريب إلى العربية حتى لا يقع المترجم في هذا الخطأ.
سادسًا: التَّرجمة خلال عهد محمد علي باشا
كما هو معروف أن محمد على اهتم بإرسال البعثات من الطلاب المصريين إلى أوروبا، وخاصة فرنسا، ومن هنا اعتبرت كأحد أهم العوامل التي ساعدت على تنشيط حركة التَّرجمة من جديد، وكما أنه أسَّس لذلك مدرسة الألسن، والتي في الأصل كان اسمها مدرسة التَّرجمة، وفى هذه الفترة بلغ عدد الكتب المترجمة إلى أكثر من 2000 كتاب في مختلف العلوم، ونظرًا لحرصه الشديد على تقدم وازدهار البلاد فإنه كان يوصي الطلاب بجلب كتب العلوم معهم من البعثات من أجل ترجمتها إلى اللغة العربية والاستفادة بها، وأمر بإنشاء هيئة من علماء الازهر من أجل مراجعة المُصطلحات المُعرَّبة والحصول على أدق ترجمة، وهذا ما يُعرف الآن بالتدقيق اللغوي.
أما في عهد الخديو اسماعيل فقد أنشأ مركزين لهذا الغرض الأول في مصر، والثاني في الشام، واللذين من خلاهما تمت ترجمة الكتاب المقدس، وتواريخ مختلفة للعالم القديم والعصور الوسطى، وتواريخ مختلف الملوك والأباطرة وكتاب مونتسكيو، ومؤلفات عديدة أخرى في الطب والجغرافيا والعلوم العسكرية والنصوص المسرحية الدرامية الفرنسية، وغيرها.