إن صنعة الترجمة لا تتأثَّر بكثرة أو قلَّة المترجمين، كما أن كثرة طرق الترجمة إلى العربية تحديدًا ليس لها تأثير كبير على حركة الترجمة، والحل في دراسة المعوقات التي تواجه هذا المجال في العالم العربي هو بداية الإصلاح، كما أن ممارسة الترجمة شيء بعيد تمامًا عن الوعي بأهميتها وأهمية وظيفتها علميًّا، وهذا ما توضحه المؤتمرات التي تنعقد سنويًّا من أجل مناقشة قضايا الترجمة والتي تطرح نفس القضايا، ولكن بصيغ مختلفة، ولكنها تظل كما هي من دون حدوث أي تغير من عام إلى آخر، وهذا يدل على أن نشاط الترجمة راكد في مكانه بلا تغيير، وهذه هي الأسباب الخافية وراء تعثُّر المجال وتكاسل البحث عن حلول لهذه المشاكل.
بما أن اللغة هي عصب أي نهضة فكرية، ولهذا فإن ارتباط حركة الترجمة وبحركة الفكر والثقافة في المجتمع هو ارتباط وثيقًا جعل أي تغيير يحدث في أي الحركتين يؤثر في الأخرى، وينعكس عليها بشكل كبير، وخير دليل على ذلك هو أن حركة النهضة الحديثة العربية بدأت ببداية تحرير اللغة العربية من الجمود التي بدورها ساهمت في حركة تحرير الفكر، وكان نقطة انطلاق في مواكبة العصر، وهذا بفضل حركة الترجمة الكبيرة التي انطلقت رغم جميع المعوقات التي واجهتها التي من خلالها تشكلت اللغة العربية التي نتداولها اليوم، هذا يوضح أن حركة الترجمة في فترة معينة استطاعت أن تأخذ طريقًا مؤثرًا في معظم المجالات العلوم المستخدمة اليوم في جميع ميادين الحياة، ليس من داعٍ، بطبيعة الحال، لأن نُكرِّر الحديث، في هذه العُجالة، عن منجزات فترة التنوير التي امتدت بين الطهطاوي وطه حسين؛ فهذا معروف، غير أن السؤال المُلِح يدور حول العامل أو العوامل التي سدَّت مجرى هذه الحركة، وخلقت هذه المشكلات التي تُربِكها، وتكاد تُحوِّلها إلى عطالة.
ومن أهم المعوقات التي تواجه حركة الترجمة:
أولًا: أن الترجمة لا تقوم على مجهود فردي فحسب، بل هي تعتمد على مجهود جماعي لعناصر مترابطة متصلة ببعض، مثل ثقافة الدولة وفكر وعلم المترجم الذي يعتبر أنه يبذل جميع طاقته لخدمة الجماعة، ومن الأعمال التي أكدت ضرورة العمل الجماعي في هذا المجال حتى يتكون لدينا مشروع كامل مثل الطهطاوي من خلال كتابه الاستكشافي (تخليص الإبريز في تلخيص باريس)، ومنهجه التربوي، وتجديده اللغوي في كتاب (التحفة المكتبية في تقريب اللغة العربية)، وطه حسين من خلال مذهب الشك الذي تلازم مع كتبه، وخصوصًا مقالاته النقدية المتضمّنة في (حديث الأربعاء)، ومقدّماته لمؤلّفات أدباء عصره ومُترجميه، ومشروع مصطفى زيوار في تأسيس قسم التحليل النفسي في جامعة عين شمس، وموازاته بحركة ترجمة ناشطة من خلال (لجنة الترجمة والتأليف والنشر)، ومثل تلك الأعمال العريقة الكثير التي أبدع فيها كبار الكتاب والمترجمين، ولن يسعنا المجال لذكر جميع هذه الأعمال الآن، لذلك على المترجم أن لا يغرد منفصلًا عن السرب وإلا سوف يبذل أضعاف الجهود التي سوف يبذلها لو عمل مع جماعة.
ثانيًا: ندرة وجود المنظومات التي تنظم حركة الترجمة على مستوى الاختصاصات والمجالات التي تعمل ببعض القواعد والقوانين التي تحمي حقوق المترجمين كحقوق الملكية الفكرية، وتضع كل صاحب اختصاص في مجاله، حتى يصبح لنشاط الترجمة تاريخ يسجل فيه الأعمال بشكل منتظم وكيان كامل للمجال يغطي جميع العاملين فيه، كما أننا لا نزال نتناولها ضمن الإطار العام وتعتبر ضمن عوامل النهضة العربية الحديثة، كما أن حضور الترجمة أصبح حتى في أكثر ظروف حياتنا خصوصية، وهكذا تُسهِم سهولة الاتصال والحصول على المعلومة في إعاقة عملية مواكبتنا للعصر الذي نعيش فيه مواكبةً منتجة لا منفعلة وتابعة.
ثالثًا: الجهل بمدى تأثير الترجمة في العالم الواقعي، وهذا لأن تأثيرها يظهر بشكل غير مباشر ويُعطي انطباعًا بأن الترجمة ما هي إلا مجموعة من القواعد والشروط والتي تطبق آليًّا، ولا تحمل أي إبداع أو فن، فما هي إلا مجرد عناصر يفترض عند توافر هو الحصول على ترجمة صحيحة، لكن هذا هو عين الخطأ، وسوء الفهم، والذي تسبب فيه هو عدم قدرة النصوص المُترجَمة على شحذ فعل التفكير وتحريضه على إنشاء متون عربية بالانطلاق من المتون الأجنبية المُترجَمة، والشروع في ضبط المبادئ الأساسية لمنهج تحليل نظري قابل للتعميم والتطبيق على حدّ سواء.
ومن هذه المعوقات والمشاكل أصبحت هناك ضرورة ملحَّة إلى نقد حركة الترجمة التي تحدث الآن، وأنه أمر منطقي حتى يعود نشاط الترجمة إلى وضعه السابق، حيث إنه سابقًا كان حركة للفكر والثقافة للغة العربية، نقدها هنا يعد الصخرة التي تحرك مياه البحيرة الراكدة وتجديد مسارات المياه، والتي بدورها تخلق مسارات جديدة كلها تصب في مصلحة الثقافة العربية، ولهذا فإن تحديد تلك المعوقات ومواجهتها بكل الأساليب الممكنة لحل هو بداية لخلق حركة ترجمة يعقبها نهضة فكرية ثقافية عظيمة تنقل المجتمع العربي في مصاف الدول الكبرى.