في القرن التاسع عشر الهجري بدأت تتجسَّد علاقة بين الترجمة والثقافة العربية، ولهذا اعتبر العصر الذهبي نظرًا لنشاط حركة الترجمة فيه عمَّا قبل ذلك، وهذا لأن الترجمة اقتصرت قبل ذلك على المدارس السريانية، ولكن في القرن السابع بدأ الاهتمام بترجمة النصوص في الطب والفلسفة اليونانية من طرف مترجمين مسيحيين عرب، وازداد نشاطها في الإمبراطورية العربية لأسباب سياسية ترتبط بضرورة إدارة الدولة الجديدة وفرض الوحدة على مختلف الشعوب والأقليات، وتعويض اليونانية باللغة العربية في الوثائق الرسمية، وهنا أصبح دور الترجمة لهدف سياسي ومحاولة للتعريب الذي لم يكن شائعًا من قبل، وخاصة بعد الانتهاء من الفتوحات الإسلامية في كل المناطق بشكل منتظم.
ولكن ظل العصر العباسي بالتحديد هو منبع التطور لترجمة المؤلفات الفلسفية والعلمية، ويرجع الفضل هنا وعلى وجه الخصوص إلى الدور الرئيسي الذي لعبته المكتبات العمومية والخاصة، وخصوصًا «بيت الحكمة» في بغداد، إذ انطلاقًا من هذه المؤسسة، برزت مدرسة للترجمة ذات هوية عربية، وكان إسحاق بن حنين الذي كان في آنٍ طبيبًا، وفيلسوفًا ولغويًّا ومترجمًا، وأحدَ أهمّ المترجمين في ذلك العصر، وقد كان ينتمي إلى قبيلة عربية مسيحية ودرس اليونانية في الإمبراطورية البيزنطية، قبل أن يشغل منصب مترجم في «بيت الحكمة». هنا بالذات في «بيت الحكمة»، ترجم كتب الطب وصار المسؤولَ عن أعمال الترجمة وطبيبَ الخليفة في نفس الوقت. قام ابن حنين بالعديد من الأسفار، بحثًا عن مخطوطات يمكن ترجمتها، وقد كان الخلفاء العباسيون في ذلك الوقت حريصين على سياسة التبادل الثقافي من أجل مصلحة الدولة الإسلامية.
تأثير الترجمة على الثقافة
وكما هو معروف فإن الثقافات تتأثر بشكل إيجابي من حركة الترجمة، وليست بشكل سلبي، كما يرى البعض، ولذلك كانت مدرسة الترجمة المرتبطة بمكتبة بغداد، حينها، مركزًا للإنتاج أكثر مما كانت مركزًا للتكوين، أي ينتج كثير من الكتب المترجمة في شتى المجالات من أجل النفع ونشر الثقافة والعلوم، واهتمت المدرسة بضرورة تخصص المترجمين، حيث يترجم كل مترجم منهم في مجال تخصصه، سواء كان أدبيًّا أو علميًّا أو قانونيًّا، وهذه يدل على شدة الدقة، ومع أنهم أيضًا اعترفوا بأهمية العمل الجماعي في هذا المجال، ولذلك كانت توزع المهام بشكل دقيق ومنظَّم، خصوصًا بصدد نسخ الكتب المترجمة حتى لا يتم خلل أو خطأ في مجمل العمل، وأخيرًا يقومون بتجليد تلك الكتب، كان المترجمون العاملون في «بيت الحكمة» من فئات وأديان مختلفة من أجل إلمام بأكبر قدر من اللغات وترجمتها إلى العربية، فقد انتمى أغلبهم إلى الطائفة المسيحية التي أتقنت الترجمة إلى اللغة العربية من العديد اللغات كالسريانية واليونانية، ولغتي المخطوطات الأصلية، كما كانت مهنة الترجمة حينها متوارثَة بين الآباء والأبناء إيمانًا منهم بأهميتها والمكانة الاجتماعية التي تنالهم من مزاولة تلك المهنة، بالإضافة أيضًا إلى المنافع المادية.
لقد كان للمترجمين في مدرسة بغداد وضع اعتباري متميز، إذ كانوا يتقاضون أجرة شهرية ضخمة، إضافة إلى العديد من الامتيازات. وقد اتصفت ترجمات إسحاق بن حُنين بالوضوح التام، لأنها كانت تنجز بهدف تربويّ، بحكم أنها كانت موجَّهة لطلاب العلم.
أسباب انحدار حال الترجمة
ورغم أن وضع الترجمة عند العرب قديم كان به من النظام والدقة أكثر من التي حدثت في الأعوام التابعة له التي كان وضعها في الثقافة العربية يعرف نوعًا من الفوضى والانحدار وسوء الاختيار في ترجمة النصوص والكتب، ولكن مع قدوم القرن العشرين بدأ يتوجه المترجمون العرب إلى الثقافة العالمية، ولكن مع الأسف لما يحالفها النجاح لعدة عوامل منها أنه لم تكن هناك مؤسسات تراعي نشاط الترجمة وتطوره وتدير النشاط بشكل نظامي مع إشراف الدولة له، بالإضافة إلى أهم العوامل وهو جمود اللغة العربية وبدأت تأخذ طريقها نحو الانحدار، وأنها كانت تقف مكتوفة الأيدي أمام اللغات الأخرى، ومع عدم قدرتها في أن تفرض نفسها بقوة مثل اللغات الأخرى، ذلك لضعف الإمكانيات التي تصيب مجال الترجمة في العالم العربي، والتي ساهمت بشكل كبير في انهيار حركة الترجمة عكس ما كان يحدث قديمًا، وخاصةً في العصر العباسي.
كما أن اللغة العربية عرفت بأنها لغة مرتبطة بالمرجعيات والكتب اللاهوتية، والتي بالتأكيد يصعب في حالة ترجمة الإضافة لها أو الإبداع فيها، وكانت مستوى انفتاحها على المجالات الأخرى مثل المعرفة الكونية، من فلسفة وعلوم إنسانية وعلوم تقنية دقيقة.. إلخ ضعيفًا، ما جعلها غيرَ قادرة على النهوض بمجال الترجمة.
لكن ليس هذا ما سوف يقلل من شأن اللغة، وهي كانت من أعرق اللغات القديمة والحديثة ويتحدث بها أكثر من 400 مليون مواطن عربي لأنه وسيلة تعبير، ولأن اللغات تقدر بعمق وكمية الترجمات التي تترجم منها إلى اللغات الأخرى، أو العكس، ومع حالة الركود التي تصيب الترجمة في العصر الحالي أدَّى أيضًا إلى تخلف اللغة العربية على مستوى الثقافة العالمية.