هذا هو مقالنا الأخير بخصوص الموضوع الذي طرحناه سابقًا في ثلاثة مقالات، وهي الصعوبات التي تواجه الترجمة الأدبية، وآخر ما ذكرناه كان عن تكرار الألفاظ في الشعر وأنواعها المختلفة ومتى نحذف لفظًا منه، ومتى لا نحذف ونترجم طبقًا للمعنى المقابل لها وليس المثيل لها لكي تلاءم ثقافة الدولة التي تترجم لها، أمَّا النوع الثاني في الشعر فهو من أنواع النظم، وليس له شكل محدد؛ ولذلك تختلف أطوال أبياتها بشكل كبير، بالإضافة إلى فن الأغنية والأنشودة، وهو نوع آخر وهو النظم المُقفَّى الذي يتَّسم بأنه لا يلتزم بمنهج في القافية، فهو لا يلتزم بتقفية البيتين المتتاليين (الكوبليه)، ولا يلتزم بمنهج واحد في تقفية القصيدة ككل (السوناتا)، لكنه يستعمل قافية من نوع ما.
وسوف نشرح الآن كيف تتم ترجمة النغمة في النص الأدبي:
كما عرَّفنا د. عناني بأنها تتصل بموقف الكاتب من المادة الأدبية، فهي تختلف تبعًا لهذا الموقف الذي قد يكون جادًّا أو هازلاً، وقد تم إهمالها في الأدب على الرغم من أهميتها التي تستحق الإبانة والتوضيح، ويفترض أن سبب الإهمال هو تعلقنا المُلحُّ بالجد الذي كان على حساب الهزل، وهو افتراض فيه نظر، يقول في هذا الصدد، ولسوف يسهل على قارئ الترجمات الحديثة أن يكتشف النغمات المتفاوتة حين يلتزم المترجم الأمانة في ترجمته، فلا يجفل من استخدام كلمة عامية أو تعبير عامي يساعده على نقل النغمة، وحين يدرك أن للغة مستويات هي التي تساعد الكاتب على الصعود أو الهبوط في نغماته.
أهمية الوزن في تحديد النغمة في النص الأدبي الشعري:
يرى البعض أن أغلب الأبيات التي تحتوي على حشو في النصوص العربية هي دليل على أهمية دور الإيقاع في تحديد النغمة، وقد أعطى لأجل تبرير موقفه أدلة متعددة من شعرنا العربي مثل:
كناطحٍ صخرة يومًا ليوهنها****فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
فالشاعر ابتدأ هنا بكلمة (يومًا)، والتي لم يكن هناك داعٍ لوجودها إلا الإبقاء على التماسك العروضي له، وأما كلمة (ناطح سحاب) فاستحوذت فالنغمة فيها حادة وفي الكلمات الأخرى مرتخية بسبب الإطناب، فالتكرار يبطئ الإيقاع.
ومن الأمثلة أيضًا:
ما في المقامِ لذي عقلٍ وذي أدبِ مِنْ رَاحَة ٍ (فَدعِ الأَوْطَانَ) واغْتَرِبِ
(إني رأيتُ) وقوفَ الماء يفسدهُ إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ
والشمس لو وقفت (في الفلكِ ساكنة) لمَلَّهَا النَّاسُ (مِنْ عُجْمٍ ومن عرب)
فكل ما بين الأقواس زائد على المعنى وفقط دوره هنا هو الحفاظ على تماسك بناء الأبيات، لذلك فإن للنغمة دورًا مهمًّا جدًّا، والتنويع فيها ينقلنا من حالة نفسية إلى أخرى.
ويذكر د. عناني عندما أراد أن يقوم بترجمة نص روائي مسرحي مثل روميو وجوليت ترجمة كاملة فوجد أن نصًّا كهذا يبدو جادًّا رغم أنه مفعم بالهزل والنغمات المتفاوتة؛ وبالتالي فالتزام النظم ومحاكاة القوافي والحيل البلاغية كلها لن تحل المشكلة إلا باللجوء إلى تنويع الأسلوب حسبما يرى، ويتمثل ذلك التنويع في الاشتمال على مستويات متعددة.
لماذا توجد صعوبة في نقل المعنى الضمني في الشعر؟
هذا ما ركَّز د. عناني في تناوله لنص «أنا ومدينتي» للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي والذي ذكر فيه أهم الصعوبات التي تنشأ عن ترجمة النصوص الشعرية من العربية إلى الإنجليزية، فحاول أن يجعل من بحر الأيام مقابلاً لبحر الرجز، وهذا الأمر قد يفسد بالمعنى؛ لأن العروض الإنجليزي يعتمد على النبر، فاستعمال ضمير المتكلم i يأتي بقافية داخلية مع (my) ويتطلب الوقوف عليها أثناء الإلقاء (this is) فإذا قرأت المقاطع الثلاثة الآتية (and this my) أحسست بالجرس النابع من الموسيقى الداخلية الذي يعمق الإحساس بالمفارقة؛ أي إن المتكلم الذي يزعم ملكية المدينة له في ليس من يقول إنه هو أي ليس له هوية.
فحركة الأصوات أصبحت جزءًا من المعنى الشعري؛ لأن الجرس سيلعب دورًا حاسمًا في الهبوط بحركة المد الصاعدة في أي إلى إي، وتي في كلمة سيتي.
في البيت الثاني هناك صعوبة من نوع آخر لها علاقة بالتجانس الصوتي الذي يتمثل في حروف العلة الممطوطة في الألفين المتواليين حتى نأتي إلى الجدران المعطوفة المتضمنة للألف فتجبرنا على ضمها إلى الميدان ثم يتلوها خبر كاذب، وهو تل، فهو ليس خبر المبتدأ، فعبارة والجدران تل جملة اسمية معترضة، لكنها في موقعها من البيت تلقي بظلالها على المبتدأ، فالخبر الحقيقي موجود في الشطر الثاني وهو تبين ثم تختفي وراء تل، فالمعنى الإحالي هنا يصطدم مع المعنى الشعري.
the vastness of the square. the walls a hill »
« appearing to disappear behind a hill
ولكن وجدنا هنا مشكلة أخرى في البيت الموالي وهي وريقة، فالمعنى الشعري لا يحدد طبيعة هذه الورقة.. إلخ. ولقد كان أستاذنا مصطفى الطوبي نبيهًا عندما تحدث عن مبدأ اللا تحديد الذي يُشكل موضوع أكثر القصائد الموغلة في الشعرية والإيحاء.
وأخيرًا، مما سبق في أربعة مقالات يتبين لنا أن ترجمة الأدبية بشكل عام وترجمة الشعر بشكل خاص، هي من أصعب أنواع وتخصصات الترجمة التي تمر على المترجم ولا يشتغل فيها إلا من كان ذا موهبة أدبية خاصة مثله كتاب النصوص الأدبية، فكل لغة تختلف في تقطيع الواقع، وفي إعادة تركيبه إلى لغة أخرى، ولهذا على المترجم أن ينطلق من روح ثقافة اللغة إلى النص ثم الجملة والكلمة.