إن اللغة العربية، بل ولغات العالم أجمع، دائمًا ما في تطوُّر وتغيير مستمر، وهذا بفضل أنها من أهم أدوات التفاعل والتفاهم اليومية بين البشر، ويواكب هذا التغيُّر تطوُّر أيضًا في المُستوى اللغوي وبالتالي يتغير المستوى الثقافي لفئة الناس المتفاعلة مع هذه اللغة، وهذ ما يساعد على استمرار لغة معينة وانقرض الأخرى.
وفي بعض الأحيان قد يحدث تراجع للغة ونتيجة لتردى المستويات الثقافية لفئة التي تتفاعل بها، وهذا نتيجة لتردِّي الأوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية، وبالتأكيد الأوضاع التعليمية والحروب، وهذا ينعكس على اللغة بصورة سلبية، ما قد يؤدِّي إلى ولادة لغة جديدة والانخفاض بمستوى من اللغة التي اشتقت منها، وبالتالي يحدث توقف لتطوير اللغة الأصلية، وقلة استخدامها وتقل الفئة التي تستخدمها مما يؤدِّي مع الوقت إلى ضمورها كليًا، وهذا ما يوضح اختفاء كثير من اللغات القديمة.
ونعود إلى اللغة العربية وماذا حدث لها منذ القدم وإلى الآن:
فهي قديمًا كانت مجرد لغة من اللغات التي تستخدم في شبه الجزيرة العربية في التفاعل اليومي للناس، وشتى الأمور المختلفة من تعليم وثقافة وفنون الكتابة والشَّعر المختلفة، ولكن مع ظهور الإسلام ونزول القرآن باللغة العربية ساهم بشكل في توهُّجها والرفع من شأنها.
استمرت اللغة العربية الفصحى في التطوُّر والانتشار وتحسن وضعها، وتحسنت مكانتها بالنسبة إلى اللغات الأجنبية الأخرى، لكن الظروف الصعبة المختلفة التي مرَّت على مستخدميها وأحاطت بهم، أدَّت إلى تراجعها وخروجها بصورة نسبية من ساحة الاستخدام في الأغراض والحياة اليومية، وبسبب أنه بدأ أن يكون لكل دولة اللهجة الخاصة بها فتزيد من استخدام بعض المفردات وتُهجر الأخرى، وتكاد تكون بعض الألفاظ اختفت من بعض البلاد لدرجة أنه لا يدرك أهلها أن هذه المفردات عربية الأصل، كما أن مستخدميها لم يهجروها بالكامل، وإنما تمسكوا وما زالوا يتمسكون باستخدامها في الأمور الرسمية، توثيقًا وتدريسًا وتعليمًا، وذلك بسبب ارتباط اللغة الوثيق بالدين الإسلامي، الأمر الذي ما زال يحول دون ضياعها، وبالتالي موتها واندثارها واختفائها من الحياة.
والأمر الذى يثير الدهشة هو أنه الآن أصبح للغة مستويات عديدة تختلف باختلاف المناطق السكانية والفئات المختلفة من الناس، وقد اختلف العلماء على تقسيم تلك المستويات، لكن ذلك التقسيم -بشكل عام- يبدأ من مستوى الأميين الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، ثم يتدرج بعد ذلك بحسب المستويات التعليمية الأساسية والثانوية والأكاديمية المختلفة، إلى أن يصل إلى المستوى الفصيح المعياري (مستوى المتخصصين في اللغة العربية)، وهو الذي يشكل قمة الهرم، وعليه يُعوَّل أمر إدامة اللغة العربية الفصحى، والمحافظة عليها، وتنميتها، وتدريسها، ونشرها.
ومع ازدياد وتنوُّع كثير من العلوم في جميع المجالات وكثرة استخدام اللغات الاجنبية، ما قلل من الاستخدام اللغة العربية الفصحى أو جعلها أحد الشروط الأساسية للإجازة في دراسة كثير من العلوم والدراسات الأكاديمية المتنوعة عدا العلوم الدراسات المتخصصة باللغة العربية أو العلوم الإسلامية، غير أن الإلمام بدرجة كافية متقدمة من اللغة العربية الفصحى (دون التخصص) يبقى من الشروط الضرورية للعمل في مجالات مثل التأليف والكتابة، والإعلام، والخطابة، والعلاقات العامة، وكذلك الترجمة نظرًا لما تفرضه هذه العلوم من كتابة مُحتوى نصِّي باللغة العربية.
أما من حيث الترجمة من اللغة العربية إلى أي لغة أخرى فهذا يتطلب من المترجم أن يكون يعرف اللغة العربية الفصحى جيدًا، وإلا فإن يقل فهم النصوص العربية المراد ترجمتها وتكون ترجمتها للغة الأجنبية ضعيفة وتحوي كثيرًا من الأخطاء، وأيضًا في حالة العكس أن عدم إلمامه بقواعد اللغة العربية سوف يضعف من ترجمته من لغة أجنبية إليها وفى جميع الحالات تكون نصوص مترجمة مختلفة عن النص الأصلي، وهذا ما يُعدُّ أمرًا كارثيًا ويتنافى مع أخلاق مهنة الترجمة.
وإن أحد أهم عوامل استمرار اللغة العربية حتى الأن هو القرآن الكريم، والذي من شأنه أنه ساعد على استمرار التواصل والوحدة بين الشعوب العربية، كما أنه أحد المراجع الأساسية في اللغة، حيث إنه مهما تراجعت اللغة في بعض الأماكن فإن القرآن الكريم قادر على إعادة إحيائها من جديد، كما أن من شأنه أيضًا أن يعيد العلاقة الضرورية بين هذه الشعوب وبين قرآنها وتراثها الديني والثقافي من جهة أخرى.
الدارسون للعربية والممارسون لها والمتمكنون منها قليلون بالنسبة إلى غيرهم، والواقع أن الطلب على خدمات التدقيق اللغوي يتبع العرض مثله مثل غيره من الأمور التجارية، ما قد يساعد بشكل كبير إلى ضعف لغة النص في بعض الأحيان، والجهة الوحيدة الملتزمة باستخدام المدققين اللغويين بشكل جيد هي دور النشر الورقي، كما أن بعض المترجمين الواثقين في معارفهم اللغوية يأبون عرض أعمالهم على مدققين في مستواهم المعرفي.
ولذلك حذارِ على المترجم أن يهمل لغته الأصلية نتيجة قلة الممارسة التي تؤدِّي إلى أخطاء لغوية كثيرة، ولتجنُّب هذه المخاطر على المترجم أن يمارس دائمًا لغته الأصلية بشكل كبير مع التركيز الجيد والدراسة والبحث المستمرة أو إرسال النص فيما بعد إلى المتخصصين في التدقيق اللغوي.