كما ذكرنا فى مقالنا السابق عن تجربتين عربيتين رائدتين فى مجال التعريب، أي ترجمة لغة العلوم إلى اللغة العربية ودراستها باللغة العربية، كانت دولة الكويت ودولة سوريا لهما الريادة في ذلك ونجحتا في الأمر وأثبتتا لباقي الدول العربية أنه يمكن تعريب العلوم ودراستها باللغة العربية عوضًا عن اللغة الاجنبية التي كتب بها، فهناك مثل آخر نجح أيضًا في الحفاظ على لغته القومية وتترجم العلوم المختلفة إلى لغته، ويتم تدريسها بلغتهم القومية، وخير مثال على ذلك دولة اليابان التي تمسكت بلغتها رغم سيطرة اللغة الإنجليزية الآن على أغلب المجالات والعلوم التي تدون بها، فقامت اليابان بترجمة تلك العلوم إلى اللغة اليابانية وتدريسها في مؤسساتها التعليمية باللغة اليابانية ولم تجد أي إعاقة في ذلك، بل طورت عليها وأضافت لها، وكما هو الحال مع الألمان أيضًا، ما قد قُوبل ذلك من خلال بعض المعارضين الإنجليز بأنهم وجدوا في ذلك عنصرية للغتهم وإنكارًا لجهود علمائهم.
ما الذي أدى إليه عدم التعريب العلوم؟
اليوم قد نسمع من شخص أنه ينطق جملة واحدة قد يكون بها ثلاث لغات، فكلمة فرنسية مع مصطلح إنجليزي وباقي الجملة باللغة العربية، ما جعل المستمع في حالة من الاستنفار من هذه اللغة الهجين، والتي تلغي هواية المتحدث بها بشكل فج، وكأنك أمام أسوأ معزوفة قد تكون سمعتها في حياتك، وعلى كل حال لا يوجد غضاضة من احتواء الجملة الواحدة على مصطلح أو تعبير أجنبي بها، لكن مع ترجمتها إلى العربية وعدم ترك المستمع في حيرة ما إن كان هذا اللفظ مدحًا أم ذمًّا، وفي هذا أيضًا إضافة إلى الحصيلة اللغوية لدى المستمع، وفي ذلك تتم عملية نشر الثقافة بأبسط الطرق الممكنة.
وهذه القضية متوقفة على ما إن كنا مصرين على أن نكون أمة مستهلكة لكل ما نستورده من الخارج أم أردنا أن نضع بصمتنا عليها وإضافة لها واللحاق بدول العالم الكبرى التي تصدر لنا تلك العلوم، وهذا لا يعني على الإطلاق ترك تعلم اللغات الأجنبية، بل بالعكس تمامًا، ذلك يحثُّ على تعلُّم تلك اللغات، وأن يكون كل فرد منا متحدثًا لأكثر من لغة من أجل أن يكون مُلمًّا بأكبر قدر من تلك العلوم، والتي سوف يقوم بتعريبها، وهذا ما يجعلنا على اتصال أقوى بالعالم وعدم عزلتنا عنه، وأن نكون مع العالم الغربي يدًا بيد في تطوير العلوم.
يندرج شرطان أساسيان ضمن قضية التعريب وهما:
أولاً: أن تتكاتف كل الجهود بين الفرد والأسرة والدولة، حيث إن أغلبنا اليوم يعلم أطفاله في مدارس أجنبية، ما يؤدي مع مرور الوقت إلى انهيار اللغة العربية لديهم، ولكن على الدولة أن تقف كحائط صد أمام كل مدرسة أجنبية تُبنى عليها أن تبني مدرسة تدرس اللغة العربية حتى تصنع توازنًا ثقافيًّا في المجتمع.
ثانيًا: أن يُسجل ويُحفظ أي إنتاج علمي قام مترجم ما بتعريبه حتى يحتفظ به ولا يضيع ونلجأ إلى تعريب نفس النص مرة أخرى، وفي ذلك حفظ لجهود المترجمين.
وإن ذلك لأمر عسير علينا أن نطبقه بمفردنا دون مساندة من الدولة لكي تدعمه وتقف بجانبنا ضد أصوات الذين لا يؤمنون بتعريب العلوم ويرونه ما هو إلا مضيعة للوقت، وذلك لأن التقصير ناتج عن قلة جهودنا المبذولة، وليس لأن قوة حجة المعارضين مقبولة لدى الناس.
وهو ما يدل على أن اللغة ليست مجرد كلمات مستخدمة للتعبير عن أفكار أو آراء فحسب, بل هي جزء لا يتجزأ من ثقافة وانتماء وفلسفة الفرد وتوضح إلى أين تمتد جذوره، كما أنه عند تحليل اللغة يجب الدراية الكاملة بكل الرموز والمصطلحات التي تُشتق من ثقافة أهل تلك اللغة، ولا يستطيع أن يفك تلك الرموز إلا إذا كان على علم بتلك الثقافة، وإلا سوف يلجأ كما يفعل كثير، إلى أخذ المصطلح أو الرمز كما هو بلغته، ومن ثم يتداول ذلك المصطلح بيننا دون معرفة أصله وما نظيره لدينا فى اللغة ويصبح الفرد متحدثًا لثلاث أو أربع لغات في الجملة الواحدة، ومعنى ذلك أنه لا معرفة بغير تحليل, ولا تحليل بغير رموز, أي بغير ألفاظ, وبعدها تتطور هذه الألفاظ في المعنى من إشارتها إلى الفرد الجزئي إلى إشارتها إلى الكلي الذي يطلق على مجموعة متجانسة من المفردات.
ومن هذا نستنتج أن حدوث أي تطور في العلوم يتطلب حدوث تطوُّر في اللغة، وهذا ما يؤكد أهمية أن العملية ليست ترجمة نصوص من لغة إلى لغة أخرى فقط، بل هي تغيير من فكر إلى آخر، والذي هو مرهون بتغيير اللغة وطريقة استخدامها، وهذا ما يدعو إلى تعريب المقررات الدراسية للمدارس والجامعات وكل وسائل التعليم المختلفة، فأهمية التعريب نابعة من أهمية الحفاظ على الهوية والانتماء.