ممَّا لا يُحتمل الشكُّ فيه أن الترجمة هي أحد أهم وأكثر العناصر الأساسية في التفاعل الإنساني، التي من خلالها تُقتبس العلوم والفكرة من مختلف البيئات، ويتم تنشرها وفقًا لاحتياجات البشر إليها من المعرفة، والحضارة، والتقنية، والاقتصاد، والسياسية، ومن خلال تطوُّر نشاط الترجمة والاهتمام بها، والسعي إلى اتِّساع نطاق دراسة قضايا اللغوية، وغير اللغوية، وتحليل ما يشكل ممارستها. في البداية، كان هذا متمركزًا على الاهتمام، ومؤلفًا من آراء وأفكار جانبية، متنوعة ومتفرقة.
وبعد أن كان دور الترجمة منحصرًا بمستوى الدراسات الأدبية وبالنقد الأدبي، بدأ يشتمل على فقه اللغة، واستمر الاهتمام إلى أن زاد اهتمام علماء اللغة وبدأوا يعتبرون دراسة الترجمة فرعًا من فروع اللسانيات الحديثة. من ثم زاد نطاق مساهمة المعنيين بالترجمة والمترجمين أنفسهم في معالجة تلك قضايا التي تخص الترجمة، وانبرى البعض لتحليل العوامل الاجتماعية والنفسية والجوانب الثقافية المؤثرة فيها، وبدأت تتكاثر النظريات سلبًا وإيجابًا، ومن نتائج ذلك بداية مرحلة دراسة الترجمة دراسة شاملة ذات ضرورة ملحة، وبدأ الجمع بينها وبين عدة فروع علمية متصلة بها، حتى بلغت هذه الدراسات درجة نشأ منها (علم الترجمة) كأحد العلوم الإنسانية، مثل اللسانيات، مع التأكيد على استقلال هذا العلم بذاته وتميزه عن اللسانيات التقليدية.
أما عندما نبدأ الحديث عن التسلسل الزمنى فنرى أن دراسات الترجمة بلغت من التطور لها ولنظرياتها بموازة التحولات التي طرأت على أشكال الترجمة ووسائلها، وكان ذلك التلاقح بين الدراسات والممارسة من أحد اهم الدوافع المحركة لكل منها على طريق التقدم والتجدد؛ ومن هنا بدأ ينشأ ويخلق علم الترجمة الحديثة فى محاولة لفهم مشاكل الترجمة، والبحث عن عناصرها اللغوية وغير اللغوية لاحقًا، ومراحلها التنفيذية وآلياتها الذهنية.
ولكن رغم كل تلك الجهود تظلّ عملية الترجمة بحاجة إلى الكثير من التفسير والتحليل، كما أن هذا سوف يجعل المترجم دائمًا في حاجة إلى اطلاع بما يقدمه علم الترجمة من شروح وإرشادات وقواعد، والتي من خلالها سوف توضح له الطريق في عمله، وتساعده على تحسين أدائه، إذن ثمة تناغم طبيعي بين الفعل والوعي بالفعل، وتنافذ مستمر بين الممارسة والمعرفة النظرية، وتأثير وتأثر بين الصنعة والعلم. وكما أن إحدى هذه النظريات والمشاكل تعتبر بمثابة مشكلة في التدخل بين المفاهيم مع مراعاة الأمانة في نقل النص الرئيسي إلى النص المترجم. وهناك عدة أسئلة عنها، منها: هل يجوز التدخل والتصرف في النص المترجم أم لا؟ إن كان الجواب إيجابًا فلِمَ؟ وأين؟ ومتى؟ وإلى أي حد؟ وأي من المترجمين يقوم بفعل كهذا؟ وما هو معنى الأمانة؟ و….
والإجابة عن ذلك كالآتي:
بما أن النصوص المترجمة تتخذ أشكالاً مختلفة في عملية الترجمة، والتي بدورها قد تُنفخ فيها روحٌ جديدةٌ تشابه مع النص الأصلي إلى درجة كبيرة، أو قد تكون بمثابة مسخ أو شَبَح هزيل ضعيف لا علاقة له محتوى النص الأصلي ولا ببيئته الفكرية والحضارية، بل ولا ببيئته الجديدة المغروسة فيها، وهذه هي من أكثر الأمور أهمية وخطورة في عملية الترجمة، ولذلك فإنه في العصر الحالي نجد للأسف أن معظم الترجمات تفتقر إلى حد كبير إلى أربعة أمور رئيسية، هي: الدقة، والضبط، والتحكُّم في المعنى، والقبول.
ونجد أن أغلب الأعمال المترجمة الكبرى لا تكون على درجة كافية من الجدة والإبداع والاحتراف، وذلك لأن كثيرًا من المترجمين أُدخلوا على الصنعة بغير علم، وما هم إلا مجرد مجموعة من هواة ومحترفين، قد تفقدهم المقدرة على فهم النصوص الأجنبية بمجمل أبعادها الدلالية والوظيفية والحضارية، ويفتقرون إلى منهجية حديثة واعية وثابتة للنقل والتعريب والترجمة، فتدخل المعرفة المنقولة إلى اللغة من باب متهرئ، وتحمل معها في جملة ما تحمله تعابير مجازية واصطلاحية لا علاقة لها بالمقصود من الكلام الأصلي، وذلك لتمارس المترجم حرفية الكلام ممارسة عمياء، دون النظر في تلك الأبعاد الحضارية والثقافية التي تؤثر بشكل كبير في ترجمته من خلال لتلك التعابير. فمن التعابير الأجنبية ما يُفهم بداهة أنه تُرجم حرفيًّا؛ لشمولية المجاز الإنساني الذي تعبِّر عنه تلك التعابير، وكثير منها يقع في خطأ في تأدية ذلك المعنى المقصود من الترجمة؛ لخصوصية المجاز وطرائق التعبير لغويًّا وثقافيًّا وحضاريًّا وبيئيًّا. وكما أنه للأسف بعض المترجمين قد لا يراعي في ترجمته كل تلك أبعادها بأمانة ودقة وصحة.
إن الغاية الأولى من الترجمة هي عملية التواصل ونقل المعرفة، إلا إذا كان هناك مانع يؤدي إلى إسقاط المعاني الكفافية والثانوية، والاحتفاظ بالمعاني الجوهرية والأساسية فيها. وما يُتّبع من أساليب حرفية في نقل الكلام، ولا سيما في المصطلحات والتعابير المجازية، غالبًا ما يخفق إخفاقًا ذريعًا في هذه الناحية المهمة في الترجمة؛ ذلك أنه يولد معاني تختلف اختلافًا كبيرًا عن المعاني الأصلية، ويرسم صورًا مختلفة ومغايرة وتؤدي إلى أن تنفصم المعاني المقصودة من تلك الصور الأصلية في بيئتها الطبيعية في محتوى النص الأصلي، أما قبل الدخول في بحث نظريات الترجمة الأمينة فيجدر بنا أن نشير إلى إحدى النظريات في تحديد مستويات الترجمة.